تحقيق: الجيش ينفذ حملات منظمة ضد الكنابي بوسط السودان
القتل والتهجير إستهدف مواطنين تنحدر أصولهم من غرب وجنوب السودان وجبال النوبة
تحذير: هذا التحقيق يحتوي على صور وفيديوهات دموية صادمة تحقيق إستقصائي: الجيش ينفذ حملات منظمة ضد سكان الكنابي بوسط السودان
القتل والتهجير إستهدف مواطنين تنحدر أصولهم من غرب وجنوب السودان وجبال النوبة
سودان وور مونيتور – لايت هاوس ريبورتس
نفذت القوات المسلحة السودانية والقوات الموالية حملات عسكرية منظمة إستهدفت خلالها مواطنين سودانيين عزل في مناطق سنار والجزيرة وصفت على أنها الأعنف من نوعها وذلك عقب وصول هذه القوات تلك المناطق خلال أكتوبر ٢٠٢٤م - يناير من العام ٢٠٢٥م تزامنا مع إنسحاب قوات الدعم السريع التي كانت تسيطر على المنطقة حوالي عام كامل. وفيما أكدت تقارير سابقة ضلوع طرفي النزاع في أعمال عنف وممارسات عنفية ضد المواطنين الافراد والمجتمعات في مواقع مختلفة على إمتداد السودان خلال حرب السودان الحالية والتي لا تزال مستعرة منذ منتصف أبريل من العام ٢٠٢٣م بين قوات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إلا أن طابع الإستهداف الجماعي الإثني والجهوي جاء مميزا لإنتهاكات القوات المسلحة السودانية في مناطق وسط السودان والتي وصفتها تقارير الأمم المتحدة بأنها ترقى لان تكون جرائم حرب حيث جاء القتل والتعذيب والتعدي الجماعي على المواطنين والحبس غير القانوني والتهجير القسري في ولايتي سنار والجزيرة ضد السكان الذين تنحدر أصولهم من غرب وجنوب السودان.
أجرى مرصد حرب السودان بالتعاون مع لايت هاوس ريبورتس تحقيقًا موسعًا استمر عدة أشهر حول العنف في ولايتي الجزيرة وسنار منذ أكتوبر ٢٠٢٤م، عقب تراجع قوات الدعم السريع وتقدم القوات المسلحة السودانية. استند التحقيق إلى مقابلات ميدانية مع الضحايا وأسرهم والشهود، وإفادات عسكريين شاركوا في العمليات، إلى جانب تحليل مئات الصور والفيديوهات المتداولة وتلك التي حصل عليها الفريق من الناجين وذوي الضحايا، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء مختصين.
كما شمل التحقيق تتبعًا بصريًا عبر الأقمار الصناعية وتحققًا من مواد مرئية أظهرت تهجيرًا واسعًا وتدميرًا ممنهجًا للمنازل والممتلكات. وثقت المواد كذلك مقتل العشرات في مناطق مختلفة، من بينها حادثة كبري ود مدني (كبري البوليس) التي قُتل فيها مئات المدنيين وأُلقي عدد كبير من الجثامين في النيل والترعة الرئيسية الممتدة بمحاذاة النيل الأزرق، حيث تم انتشالها لاحقًا ودفنها بشكل متفرق قرب بوابات التحكم المائية على امتداد القناة.
وكشف التحقيق أن القوات المسلحة السودانية والقوات المتحالفة معها إستهدفت المئات من المواطنين السودانيين على أساس العرق والجهة، حيث قُتل المئات من المواطنين الذين ينحدرون من غرب وجنوب السودان وجبال النوبة أثناء عودة تلك القوات إلى مناطق الجزيرة وسنار، كما تم اعتقال الآلاف وتهجير عدد كبير من سكان الكنابي فيما يظهر أنه حملة منظمة تخللت العمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة. ويُعرف سكان الكنابي بأنهم المزارعون الذين تعود أصولهم إلى غرب السودان، ويقطن جزء كبير منهم في مساكن مؤقتة تُسمى بالكنابي شُيِّدت أغلبها من المواد المحلية في أماكن غير مخططة، بينما يسكن البعض على أطراف قنوات الري على امتداد المشروع الزراعي الأكبر في إفريقيا منذ بدايات القرن الماضي. وقد وصفت عضو فريق التحقيق المستقل التابع للأمم المتحدة في السودان، السيدة جوي نجوزي إيزيلو لـقناة سي إن إن الأمريكية، الهجمات بأنها واسعة النطاق وتشير إلى “إبادة مستهدفة للناس” و”تطهير عرقي”، وهي جريمة حرب.
وأظهرت العديد من الصور ومقاطع الفيديو التي إطلع عليها فريق التحقيق أن عمليات قتل واعتقالات واسعة خلال الأسبوع الثاني من شهر يناير في مدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، بواسطة قوات الجيش وقوات المخابرات العامة وقوات درع السودان والقوات المشتركة لسلام جوبا. كما وثقت الوقائع عمليات قتل وتهجير ونهب منظم شمل العديد من الكنابي على امتداد طريق سنار – مدني، مدني – الخرطوم، الفاو – مدني، المناقل – أبو قوتة – الخرطوم، إلى جانب استهداف المواطنين على الأساس ذاته في قرى شرق وغرب سنار، بما في ذلك قرى جنوب الدندر مثل قرى الكامراب وعبدالبنات ومنوفلي والفريش، حيث لا يزال الأهالي المُهجّرون يُمنعون من العودة إلى مناطقهم ومشاريعهم الزراعية.
ويركز هذا التحقيق بصورة أساسية على تفاصيل أحداث ولاية الجزيرة التي رافقت وصول الجيش والقوات الموالية له.
إلقاء الجثث في الترعة الرئيسية
وبالرغم من أن جثث القتلى قد ظهرت بصورة كبيرة في قنطرة مدينة المعيلق (قنطرة المعيلق – الدبيبة عبدالله) الواقعة شمال الجزيرة في الأسبوع الثاني بعد دخول القوات المسلحة والقوات الموالية لها إلى مدينة ود مدني في الثاني عشر من يناير ٢٠٢٥م، أي بعد حوالي ثلاثة إلى خمسة أيام، إلا أن مصادر عسكرية أفادت بأن عمليات القتل قد وقعت بشكل كبير في مناطق غربي مدني حيث شنت القوات التي تمركزت في منطقة ودالنعيم حملة واسعة على سكان الكنابي المجاورة وإعتقال وقتل العديد منهم بصورة فورية. وذكر مصدر عسكري ضمن القوات المشاركة في دخول ودمدني، إن القوات القادمة من المناقل قد القت القبض على عدد كبير من مواطني الكنابي وقتلهم وإلقاء جثثهم في الترعة الرئيسية في منطقة ودالنعيم الواقعة غربي مدني حيث توجد مقبرة جماعية تم التأكد منها عبر فريق التحقيق، فيما تم سحب عدد كبير من الجثث ودفنهم بواسطة إستخدام آلية حفر (كراكة) في منطقة كبري بيكة المعروف بتفتيش بيكا الواقع على بعد حوالي ست كيلومترات شمال منطقة ودالنعيم. وذكر أحد المصادر أنه تم إعقتال أكثر من خمسمائة شخص من سكان الكنابي المجاورة بينها كمبو حلة قصب وكمبو الكمر الجعليين وكمبو عبدالعزيز وكمبو ود مقبول وكمبو سعد الشفيع بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع وقتل أعداد كبيرة منهم ورمي جثثهم في الترعة (الكنار)، بعضهم أحياء مصابين، حيث قال “عددهم كبير لكن أنا عن نفسي شفت زي ٥٠٠ شخص”، وأضاف ذات المصدر “أي زول ثبت إنه شال سلاح مع الدعم السريع قتل فورا والناس الكانوا بوفروا الدعم تم أخذهم بواسطة الخلية الأمنية”.
وفي منطقة بيكة، ذكر أحد القادة العسكريين إنه تم التعامل مع الذين كانوا متواجدين في المنطقة عبر الخلية الأمنية لكنه لم يوضح ما حدث بالفعل لحظة وصول القوات. وأفاد ذات المصدر عدد كبير من المواطنين الذين خرجوا من مدينة ودمدني وهم يهتفون تأييدا وإستقبالا للقوات المسلحة السودانية والقوات المتحالفة معها لحظة وصولها إلى المدينة إلا أنه تم إطلاق النار عليهم من قبل الجنود وقتل المئات منهم ودفنهم في مقبرة جماعية بالقرب من مدخل كبري البوليس من ناحية البر الغربي، فيما لم يفصح المتحدث عن مصدر تعليمات إطلاق النار، واكتفى بالقول “عددهم كبير، بالمئات، ما حسبناهم”. وتابع “دفناهم في مقبرة جماعية مع قوات الدعم السريع الذين قتلناهم في ذات المكان”.
وتواصلت الإعتداءات على المواطنين مع وصول هذه القوات إلى مناطق الحصاحيصا حيث شنت تلك المجموعات هجومات واسعة شملت أكثر من ١٦ كمبو وقتل واعتقال العديد من المواطنين ونهب ممتلكاتهم بجانب تدمير وحرق ما تبقى منها مثل كمبو علقم، كمبو نبق، كمبو ١٧، كمبو أم عدارة وغيرها، فيما أجبر الاحياء المتبقين للنزوح إلى مناطق طابت والمسلمية، بينما لا يزال يطالب بعض الأهالي بإبعادهم من المنطقة. وذكر أحد الناجين من مناطق الحصاحيصا إن مستنفرين موالون للجيش من القرى المجاورة يرتدون الزي العسكري هجموا على الكمبو الذي يعيش فيه وأطلقوا النار بشكل عشوائي على المواطنين واعتقلوا خمسة أشخاص على الأقل بتهمة التعاون مع الدعم السريع، كما قاموا بنهب وحرق الكمبو وممتلكاته، حيث قال “أحرقوا ست سيارات وتسعة مواتر وقاموا بقطع أشجار يزيد عمرها عن ٣٥ عاما وأخذوها معهم”. كما هجم مستنفرين من القرى المجاورة على أحد الكنابي في منطقة على مقربة من الحصاحيصا بداعي أن الكمبو يعتبر حاضنة لقوات الدعم السريع، وهو الإتهام الشائع المطلق على هذه المجموعات السكانية، حيث أطلقت المجموعة المهاجمة النار على الكمبو بعد إحاطته من كافة الجهات. وذكر أحد الناجين من سكان الكمبو أن المجموعة المهاجمة كانت تهتف ضد سكان الكنابي “لا كنابي بعد اليوم”، مشيرا إلى أن المهاجمين قاموا بنهب ممتلكات المواطنين دون وجه حق بتهمة أن هذه المقتنيات من تلفزيونات وثلاجات وغيرها قد سرقها سكان الكمبو من جهة ما وهو أمر ينفيه سكان الكمبو. وأوضح في الوقت ذاته ان المجموعة المهاجمة ظلت تردد أنهم لن يسمحوا ببقاء الكنابي والمواطنين الذين ينحدرون من غرب السودان في الجزيرة بعد اليوم “إنتم غرابة، والغرابة يجب إستئصالهم من الجزيرة، ما دايرين غرابة في الجزيرة، كل الغرابة حواضن للدعم السريع”.
وذكر أحد الشهود أنه تم القبض على مواطن يدعى يوسف وهو يعمل في فرن لرغيف العيش بمنطقة ودالسيد بواسطة مستنفرين من أبناء المنطقة بتهمة أنه كان يبيع الرغيف لقوات الدعم السريع، وقد تم إقتياده إلى خارج المنطقة قبل أن يعثر على جثته طافحا في القناة. وبين احد المتحدثين أنهم شاهدوا أكثر من مرة جثث تحملها مياه القناة التي تعبر بالقرب منهم مما دفعهم بالتوقف عن إستخدام مياه القناة “رأينا عدد جثتين في القنطرة المجاورة، وأكثر من مرة شاهدنا الجثث في القناة، لذا توقفنا عن إستخدام المياه”.
أما في منطقة شرق الجزيرة، فقد أفاد ضابط رفيع من غرفة عمليات المحور الشرقي (محور الفاو) للجيش وحلفائه، إن مجموعة من المواطنين من كمبو طيبة و دارالسلام قد وصلوا إلى مقر قيادة العمليات للتبليغ عن حوادث قتل وهجومات مستمرة ضد سكان الكنابي في هذه المنطقة بواسطة منسوبي قوات درع السودان وبعض المسلحين المحليين، إلا أن قيادة غرفة العمليات العسكرية قد رفضت التدخل لحماية المدنيين في تلك المناطق. وقد أظهرت محتويات مصورة تم تداولها بوسائل التواصل الاجتماعي وتحقق منها فريق التحقيق عدد من القتلى في كمبو طيبة بجانب العديد من الصور والفيديوهات التي تم توثيقها من مناطق دارالسلام الحديبة والشريف يعقوب.
وكان تقرير لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة الذي نشر بتاريخ ٥ سبتمبر ٢٠٢٥م أورد بأنه بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها السيطرة على ولاية الجزيرة في يناير ٢٠٢٥م، استهدفت أعمال الانتقام بشكل خاص مجتمع الكنابي، متهمةً إياهم بالانحياز إلى قوات الدعم السريع. حيث وثق التقرير أكثر من ٤٠ حالة قتل خلال هجمات قامت بها قوات درع السودان على في الفترة من ٩إلى ١٢ يناير ٢٠٢٥م، حيث هاجمت تلك القوات عدة قرى لمجتمع الكنابي، من بينها طيبة ودار السلام الحديبة. ووصف التقرير المهاجمون بأنهم كانوا يستخدمون عربات مسلحة، وأطلقوا النار وقتلوا مدنيين غير مسلحين، وأحرقوا المنازل، ونهبوا الممتلكات والماشية؛ حيث جاء فيه “في طيبة وحدها، قُتل ما لا يقل عن ٢٦ شخصاً، بينهم طفل. واستخدم الجناة عبارات عنصرية ضد الضحايا مثل “عبيد” و”غرابة”. وفي دار السلام الحديبة، قُتل ما لا يقل عن ١٦ شخصاً، كما نُهبت وأحرقت العديد من المنازل، ولا يزال البعض مفقودين. أُجبر معظم السكان على الفرار، ومُنعوا من العودة إلى قريتهم”.
وكشف مصدر عسكري رفيع بغرفة التحكم والسيطرة أن قيادة العمليات لمتحرك المحور الشرقي رفضت التدخل لحماية سكان الكنابي في الجزيرة خصوصا في منطقة شرق الجزيرة، مشيرا إلى أن الهجمات التي وقعت في البر الغربي للجزيرة قامت بها القوات التي أتت من سنار والمناقل، كما أكد أن عمليات القتل كانت كبيرة على إمتداد طريق الخرطوم - مدني لدرجة بلغ الناس معها عدم الإكتراث لما يحدث للجثامين الملقية على الأرض “كانت الجثث منتشرة في كل مكان على طول طريق مدني–الخرطوم. أصبح الأمر مشهداً عادياً للناس. يمكنك أن ترى جثة تتغذى عليها الكلاب، فلا أحد لديه القدرة أو حتى الإرادة الأخلاقية لدفن أحد”.
مدافن جماعية في أكثر من موقع على إمتداد القناة الرئيسية (الكنار/الميجر)
وتأكد فريق التحقيق من عدد من المدافن التي قيل أنها مقابر جماعية على امتداد قناة الري الرئيسية المعروفة في الجزيرة بالكنار أو الميجر، حيث تم سحب جثامين القتلى في مناطق متفرقة ودفنها على مقربة من القناة.
وإلتقى فريق التحقيق في هذا الجانب عدد الشهود في مناطق متفرقة بدءا من منطقة ودالنعيم مرورا بكبري بيكة و ودالسيد وأبوعشر والجملون وإنتهاء بمنطقة المعيلق حيث تم تصوير الفيديو الشهير الذي يظهر عدد من الجثث المتجمعة في كبري المعيلق - الدبيبة عبدالله، حيث تم تصويره حينها بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من مدينة ود مدني وعموم مناطق الجزيرة جنوبا. ووقف فريق التحقيق عند عدد من المدافن حيث أفاد بعض الشهود بأنه تم سحب ودفن الجثامين فيها.
وأفاد شهود عيان في منطقة أبوعشر – بالقرب من المشفى الصيني - عن وصول وعبور عدد من الجثامين إلى المنطقة عبر القناة عقب وصول قوات الجيش والقوات المتحالفة معه إلى مناطق مدني والحصاحيصا مباشرة، حيث ظلت الجثث تصل بصورة يومية لما يقرب الأسبوع، تم سحب ودفن العديد منها في مقابر بالقرب من القناة وقضيب السكك حديد. كما وقف فريق التحقيق على مقابر جماعية بمنطقتي بيكة ومنطقة ودالنعيم التي إتخذتها قوات الجيش مركزا للعمليات.
وأكد بعض الذين تحدث إليهم فريق التحقيق أنهم شاهدوا أعدادا متفاوتة لجثامين طافية على مجرى الترعة الرئيسية (الكنار) لم يتم التعرف عليهم في أغلب الأحيان.
تنسيق الهجمات على الكنابي
وفيما تبدو الهجمات على الكنابي والقرى التي تم إستهدافها على أنها إمتدادا للعمليات العسكرية وملاحقة لقوات الدعم السريع المنسحبة من مناطق الدندر وسنجة وشرقي الجزيرة، إلا أن عمليات تهجير ونهب تلك المناطق جاء بتخطيط مسبق وفق ما أفاد نافذين ذو صلة بجهاز الأمن والجيش بينهم مشاركين في هجمات وتدمير وتهجير القرى في مناطق غربي مدني والحصاحيصا وإمتداد المناقل.
وحسب المصادر الميدانية والفرق المشاركة في التحقيق، فإن الحركة الإسلامية والجيش يعملان بتنسيق عملياتي مشترك عبر لجنة تضم قيادات عليا على رأسهم الجنرال ياسر العطا مساعد قائد عام الجيش وعضو مجلس السيادة السوداني والجنرال محمد عباس اللبيب نائب مدير جهاز الامن والمخابرات العامة الذي تولى قيادة المحور الشرقي ضمن آخرين، حيث تتلقى اللجنة تعليماتها من القيادة العليا للجيش والحركة الإسلامية التي تشرف على سير العمليات “الحركة الإسلامية بقيادة كرتي هي التي تدير المعارك”.
وقد جاءت أول زيارة للفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد عام الجيش إلى المنطقة، بعد يومين من دخول القوات إلى مدينة ودمدني، إلى منطقة بيكة حيث أفادت المصادر أن العديد من جثث القتلى تم إنتشالها ودفنها في مقبرة جماعية في تلك المنطقة وتم التحقق منها عبر فريق التحقيق. وذكر مصدر رفيع مقرب من القيادة العليا للحركة الإسلامية وقيادة الجيش معا، أن تنظيم الحركة الإسلامية هو الذي يقود العمليات العسكرية عبر تعليمات تتنزل للفريق أول عبدالفتاح البرهان ومنه إلى لجنة التنسيق المشتركة بقيادة العطا واللبيب. وأوضح مصدر عسكري من الحصاحيصا، في هذا السياق، أن تعليمات الهجوم على الكنابي صادرة من جهات عليا، حيث قال “الموضوع بتاع هجوم الكنابي ده جاي من فوق، من الكيزان”، وذلك على خلاف ما يظهر على أنه أحداث محلية تقودها قوات درع السودان التي تورطت هي الأخرى في العديد من هجمات قرى شرق الجزيرة كما جاء في تقرير هيومان رايتس ووتش.
وذكرت مصادر عسكرية أن الحركة الإسلامية عملت على إستقطاب بعض الإثنيات من خلال تحريضها على الكنابي وبالتالي تكوين تشكيلات عسكرية محلية تم استقطابها بواسطة الجيش عبر منسوبيه من أبناء هذه المناطق بينها قوات درع السودان، قوات عشم السودان، قوات تحرير الجزيرة وغيرها من المجموعات المحلية التي تم تجميعها وتسليحها بواسطة القوات المسلحة السودانية توطئة للحملة إضافة إلى كتيبة البراء بن مالك المعروفة بحيث يتم توزيع السلاح وتنسيق العمليات بينها بغرض إعتقال وقتل قاطنيها وحبسهم وتعذيبهم في الأماكن التي تتخذها هذه التكوينات مراكز عمليات ليتم تسليم الأحياء المتبقين منهم إلى الجيش خصوصا في مناطق المناقل والحصاحيصا حيث تم تحويل مصنع نسيج الحصاحيصا وجامعة المناقل وبعض مباني المؤسسات الحكومية إلى مراكز عمليات يتم فيها القتل والتعذيب والدفن غير الشرعي للمتوفين جراء ذلك. وذكر أحد قادة المستنفرين من قرى إحدى المناقل أن أبناءهم في الجيش ينسقون هذه العمليات، حيث تم إعتقال وتعذيب معظم سكان الكمبو المجاور لهم، قائلا “بنعتقلهم ونعذبهم هنا، المات بندفنو، والتعب شديد بنسلمه أهله، والبفضل بجو بشيلوه ناس الجيش للمناقل”.
وأفاد مصدر عسكري ميداني ذو صلة بالحركة الإسلامية أنه يتم حشد بعض المجتمعات عبر الحركة الإسلامية من خلال خطاب كراهية منظم لتحريضهم ضد سكان الكنابي، عبر مجموعات محلية بينها الإدارة الأهلية، من خلال تخويفهم بأن سكان الكنابي هو الخطر الذي يهدد بقاءهم بجانب التأثير على القرار السياسي في الجزيرة مستقبلا، مبينا أن التحريض وتوزيع السلاح يتم عبر منسوبي الجيش من أبناء هذه المناطق حيث يوفر هؤلاء التنسيق التغطية القانونية والمشروعية لجميع الاعمال التي تشمل الإعتقال والقتل والتعذيب والحجز وحرق الكنابي.
وقد ظهر السيد الطيب الإمام جودة أمير بطن النفيدية من قبيلة الكواهلة من منطقة سرحان غربي الجزيرة في العديد من المناسبات وهو يقوم بتحريض الأهالي ضد مجموعات إثنية وقبائل معينة كما ظهر ذات القيادي الأهلي مع عدد من قيادات الجيش في أكثر من مناسبة بجانب مشاركته فعاليات قوات درع السودان التي يقع عليها الإتهام الأكبر في هجمات شرقي الجزيرة. وبرز إسم الزعيم الأهلي بشكل أكبر بعد نشره بيانا في ١٢ مارس ٢٠٢٥م أعلن فيه دعمه لقوات درع السودان بقيادة كيكل بجانب رفضه لمسألة جمع السلاح من سكان االوسط وكذلك رفصه وجود حركات سلام جوبا التي تقاتل بجانب السودان في الحرب الحالية ضد قوات الدعم السريع بمنطقة الجزيرة.
وفي رده على سؤال لايت هاوس ربيورتس، أكد حاكم إقليم دارفور السيد مني أركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان المشاركة ضمن القوات المشتركة المقاتلة في صفوف الجيش ضد الدعم السريع، أكد، أثناء مقابلة أجريت معه في بورتسودان، وقوع عمليات قتل ضد سكان الكنابي، لكنه إستدرك قائلا “عندما سمعت بالأحداث، أمرت قواتي بوقف القتل مباشرة”.
وبينما لم ترد القوات المسلحة السودانية وجهاز الامن على العمليات، قالت قوات درع السودان أن قواتها لم تهاجم المواطنين على أساس إثنيكما أن قواتهم متمسكة بقواعد الإشتباك الخاصة بهم والقانون الدولي الإنساني.
العدالة والمصالحة
وبينما لا يطالب المواطنين في قرى سنار وجنوب الدندر بأكثر من السماح لهم بالعودة إلى مناطقهم وممارسة حياتهم كما في السابق، يطالب المتضررين من سكان الكنابي في الجزيرة بعدالة تعيد لهم حقوقهم وتضمن سلامتهم وعودتهم إلى قراهم كما يطالب البعض بضرورة القصاص لأجل الضحايا الذين راحوا ضحايا للقتل والتعذيب والتنكيل على أيدي عناصر المجموعات المشار إليها سابقا، بعضهم معروفين لديهم.
وكان الفريق عبدالفتاح البرهان القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة لحكومة بورتسودان قد شكل لجنة تحقيق في أحداث كمبو طيبة بشرق الجزيرة دون غيرها، حيث زارت اللجنة المنطقة وتحدثت إلى الأهالي الذين روا قصصا مروعة وسردا مفصلا للأضرار التي وقعت عليهم، إلا أن اللجنة المعنية لم تعلن عن نتائج عملها حتى الآن.
وفي موقف يشابه إلى حد كبير فقدان الامل في لجنة البرهان المكونة لهذا الغرض، أعرب بعض الذين تحدثنا إليهم عن وجهات نظر مختلفة حيث يرى البعض أن تحقيق العدالة سيكون عبر آليات مختلفة حيث تركز مطلب العودة إلى مناطقهم كمسألة رئيسية، وقال أحدهم “العدالة تحتاج إلى حراك شعبي، لكن الأمر ليس سهلاً. هؤلاء المجرمون لا يريدون عودتنا إلى المنطقة، ولم يحدث شيء من أجل العدالة حتى اليوم”. وأضاف آخر من المهجرين من مناطق البر الغربي للنيل الأزرق “نعم، يمكن تحقيق العدالة وعودة الناس إلى أراضيهم. مع هؤلاء الناس، نسينا الراحة. على سبيل المثال، في تلك المنطقة، أُحرقت ثلاثون قرية، وينتشر الكثيرون الآن في خمس عشرة قرية، ويجب على الكثيرين العودة إلى قراهم”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك عدد كبير من المهجرين من مناطق غرب الحصاحيصا وغيرها في مناطق طابت الشيخ عبدالمحمود والمسلمية وبعض القرى المجاورة بينما لا تزال هناك مطالبات مستمرة من بعض المستنفرين تطالب بعدم السماح لهم بالعودة إلى مناطقهم بل بترحيلهم إلى خارج حدود الجزيرة.
وأضاف أحد الناجين إن العدالة تتطلب الصدق من أجل تحقيقها ويتطلب ذلك توفير مقومات الحياة من مأكل ومشرب وأمن، حيث قال “إذا كان القائمون على العدالة صادقين، فسيكون هناك أمان في الطعام والشراب، وأمان في النوم. العدل يحقق التنمية والرفاه، ولا بد من توفر هذه الأمور لتحقيق العدل”.
وفيما تركزت أغلب مطالب العدالة من الذين تحدث فريق التحقيق في السماح للمهجرين بالعودة إلى مناطقهم وتوفير الامن وسبل العيش الكريم لهم، إلا أن إحدى ذوي الضحايا طالبت بضرورة القصاص لأجل أسرتها التي فقدتها جراء الهجومات على الكنابي، بالقول “عذبوا أبنائي وقتلوهم. أتمنى أن تتحقق العدالة وأن يُعاقبوا”.
أما على المستوى الأهلي فقد نشطت لجنة مصالحة أهلية في وقت سابق تحت قيادة الأستاذ على آدم جبريل وآخرين والتي قامت بمحاولات مصالحة بين الأهالي وإرجاع بعض المهجرين بشرق الجزيرة إلى مناطقهم رغم معارضة البعض حيث تم الهجوم عبر إطلاق النار على العائدين إلى منطقة دارالسلام الحديبة بواسطة مسلحين في ١٨ أغسطس ٢٠٢٥م، إلا أن اللجنة لم تواصل عملها بسبب وفاة المحامي علي آدم الذي كان يقود المبادرة.
إنكماش المساحات المزروعة جراء العنف
وكشفت صورا إلتقطها الدكتور بيتر آلدوس من فريق التحقيق بلايت هاوس ريبورتس وسودان وور مونيتور وبإستخدم نظم الإستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية، كشفت عن تراجع ملحوظ في المساحات المزروعة خلال الأعوام القليلة الماضية، بينها حالات جفاف وعدم إنتظام في حركة إنسياب الري في أجزاء واسعة من المشروع.
وأكد عدد من المزارعين الذين تحدث إليهم فريق التحقيق التابع للايت هاوس ريبورتس وسودان وور مونيتور أن تهجير سكان الكنابي ومنع آخرين من الوصول إلى المزارع تسبب في هجر مساحات زراعية واسعة من المشروع الذي يعتبر قلب الزراعة السوداني. فيما قدر بعض المزارعين الذين تحدث إليهم فريق التحقيق أن أكثر من ٣٠٪ من المساحة المزروعة في جنوب الجزيرة أصبحت بورا بسبب تهجير من أسموهم بالعمالة الموسمية. ورجح بعض المزارعين أن إنحسار كبير للعروة الشتوية للموسم الحالي في مكاتب أبودقن، ووادي شعير، والفوار، وعبدالحكم بجنوب الجزيرة وكذلك مناطق الكمر الجعليين إضافة إلى مكاتب النويلة والريان وحمدنا الله قد تراجعت بصورة كبيرة بجانب إهمال وخراب واسع لقنوات الري الداخلية.
وعزا بعض المزارعين تراجع المساحة المزروعة إلى أن المهجرين من سكان الكنابي كانوا يعملون على استئجار المزارع وفق ما يعرف بـ (التنقيد) حيث أصبح من الصعب تمويل بعض المزارع عبر ملاكها منذ رفع الدعم والتموين الحكومي عن المشروع الزراعي في العام ٢٠٠٥م.






